جراء حرب مليشيا الحوثي.. الثقافة في مشهدين مختلفين

img

سبتمبر نت/ تقرير – أحمد عفيف

في بضع سنين من الحرب التي تسببت بها انقلاب المليشيا الحوثية المتمردة على الشرعية الدستورية، تحولت البنى التحتية البسيطة المتاحة للفعل الثقافي اليمني إلى بقايا ركام، وأضحت الكثير من الأعيان الثقافية والحضارية مجرد أطلال بالية، وتمزق الأدباء والشعراء والفنانون والمفكرون والأدباء كل ممزق، فقد حملت الأجندة الرئيسية لمشروع الدمار الحوثي عزل اليمنيين عن هويتهم الثقافية الأصيلة والمنيعة، لإحلال ثقافة الظلام والكهنوت والاستعباد والكراهية، وهو أمر لن يتأتى وفقا لهذه الأجندة إلا بالقضاء على مصادر الثقافة ومضانها المتمثلة في المؤسسات والمرافق الثقافية والمكتبات ودور النشر وبيوت الثقافة والفنون والمواقع التاريخية والأثرية والمسارح ومراكز البحوث والدراسات والمتاحف، وفي محاربة أرباب الفعل الثقافي ورواده باعتبارهم المحرك الرئيس للمشهد، وقد انعكست هذه الرؤى التدميرية على سلوك وممارسات المليشيا الانقلابية، فخلال سنوات الحرب ضاقت الأرض بما رحبت في مناطق سيطرتها على المثقفين والمبدعين بفعل ممارسات التضييق والمنع والمصادرة التي مورست بحقهم وحق مؤسساتهم، لينجوا بأنفسهم إلى المناطق المحررة وإلى دول أخرى كي يتمكنوا من ممارسة الفعل الثقافي في ظروف أكثر أمنا واستقرارا وحرية.

حين استحوذت المليشيا على مؤسسات ومقدرات الدولة أصيبت الثقافة اليمنية بالكثير من الانتكاسات والخيبات والتراجع المخيف الذي وصل إلى قعر الهاوية، ومظاهر ذلك تجلت في تعطيل وزارة الثقافة ومكاتبها الرسمية ومؤسساتها وهيئاتها التابعة، فلم يسجل لها أي نشاط  حقيقي عدا تعميق الفكر الظلامي الكهنوتي الدخيل على هذه البلاد، كما أغلقت المؤسسات الثقافية منها البيت اليمني للموسيقى ومنتديات الفنون والفكر والأدب، وتم الاعتداء المسلح على بيت الموروث الشعبي ومصادرة كل مقتنياته الثمينة من الملابس والمجوهرات والأدوات الشعبية المجمعة من كافة أنحاء البلاد، وألغيت الكثير من الفعاليات الثقافية من خلال المنع المسبق أو الاقتحام، وصودرت مقتنيات المتاحف ودور الآثار ليتم تهريبها والمتاجرة بها، ولجأت العديد من المؤسسات المدنية المعنية بصناعة الأفلام وعرضها إلى إغلاق مكاتبها في مناطق سيطرة المليشيا نتيجة المنع المتكرر لإقامة أنشطتها.

العديد من وقائع الحرب على الثقافة اليمنية شهدتها مناطق سيطرة المليشيا، ولم يقف الأمر عند هذا، فقد عمدت المليشيا إلى الاحتماء بالمواقع الأثرية والتراثية أثناء الاشتباكات المسلحة بهدف إلحاق الأضرار بها حقدا منها ومن عناصرها على معالم اليمن الحضارية، وتجاوز حقدها ليصل إلى استهداف المعالم الأثرية اليمنية والمؤسسات الثقافية التي لا تمثل هدفا عسكريا في وقائع متعددة أبرزها إحراق مكتبة السعيد الثقافية، وتدمير المركز الثقافي والمتحف الوطني بمدينة تعز، وكذلك استهداف منارة جامع المظفر والأعيان التراثية التي تنتمي إلى عصر الدولة الرسولية والواقعة في المدينة القديمة بمحافظة تعز، علاوة على استهدافها لمتاحف ومكتبات محافظة لحج والمواقع الأثرية في محافظة مأرب ومنطقة زبيد والعاصمة عدن ومدينة براقش الأثرية والمساجد والأعيان القديمة المنتشرة على امتداد الساحل الغربي.

عام الكوارث

خلال العام 2019م شهدت مناطق سيطرة المليشيا مزيداً من الكوارث والجرائم المرتكبة بحق الثقافة والمثقفين، واختفى المشهد الثقافي كليا ولم يتبق منه إلا مشهد المطالبات والتنديد.

في ما يتعلق بتجريف التراث الثقافي افتتحت المليشيا العام المنصرم باقتحام متحف بينون في عزلة ثوبان بمديرية الحدأ محافظة ذمار ونهبت كل مقتنياته الثمينة، كما عبثت بالمكتبة الوطنية التي يضمها المتحف ونزعت منها صور رموز ثورة 26 سبتمبر وصور زعماء اليمن المتعاقبين على الحكم منذ ثورة 26 سبتمبر لتستبدلها برموز الجماعة الانقلابية وصور قتلاها، ويحتوي متحف بينون على مجموعة كبيرة من القطع الأثرية للحضارة الحميرية تم الكشف عنها في مدينة بينون وغيرها من مناطق الحدأ، منها الأزياء والحلي والصناعات الحرفية وأدوات العمل الزراعي، وفي المتحف أيضا قاعات كبيرة لعرض الآثار والمخطوطات والموروث الشعبي ومعامل لترميم وصيانة وحفظ الآثار، وفي سياق تجريف التراث تفاجأ الكثير من زوار المتحف الحربي في صنعاء باختفاء الكثير من موجودات المتحف بما فيها تمثال ذمار علي، ليحل محلها صور قتلى المليشيا ومقتنيات رموزها، وإزالة الصور التي وثقت لممارسات الظلم والقمع التي شهدتها اليمن أثناء حكم الأئمة، وقد أكد مسؤولون لصحف عربية وأجنبية اختفاء أكثر من 30 ألف قطعة ووثيقة من المتحف الحربي في صنعاء ومتحف ذمار، وثقت وزارة الثقافة اليمنية منها حتى الآن 700 قطعة أثرية مفقودة من المتاحف تم تداولها في الأسواق العالمية.

وتكثفت ممارسات طمس معالم التراث الثقافي في منطقة صنعاء القديمة، إذ يؤكد ناشط في التراث الثقافي بصنعاء لـ”26 سبتمبر” يرفض الكشف عن اسمه خوفا من ملاحقات المليشيا بأن صنعاء القديمة المصنفة في قائمة التراث العالمي مهددة بالخروج من هذه القائمة نتيجة تعمد عناصر المليشيا بالتأثير على خصائص أبنيتها من خلال سماحهم باستحداث أبنية حديثة ملاصقة للمباني القديمة وكتابة الشعارات والعبارات على الأبنية بمادة الرنج واستحداث نافورات غير مطابقة لخصائص الأبنية، مؤكدا أنه من الصعب التخلص من آثار هذه الاستحداثات على المستوى  القريب نظرا لتأثيرها الكبير، داعيا المهتمين إلى ممارسة الضغط دوليا لإيقاف عبثها.

وفي الجوانب المتصلة بالفعل الثقافي غابت الفعاليات وإصدارات الشعر والرواية والقصة ومعارض الفنون وعروض المسرح والفن الغنائي وندوات الفكر والمبادرات الثقافية الشبابية والمجتمعية، مقابل حضور كثيف للإصدارات الطائفية وملازم الفكر الكهنوتي، وفعاليات التدريب الإجبارية المخصصة لغرس قناعات الكراهية والإرهاب وتفتيت النسيج المجتمع، وبحسب إفادة  الناشطة في الحقوق والحريات المدنية فاطمة صالح  لـ”26 سبتمبر” فإن المليشيا نظمت الدورات  الطائفية مستهدفة المعلمين وطلاب الجامعات والمدارس وأولياء الأمور والنخب المثقفة، وعدداً من الأكاديميين وأجبرتهم على حضورها بالإكراه، وأشارت فاطمة صالح إلى أن هذه الممارسة تتنافى مع المواثيق الدولية التي تنص على تجريم تلقين منهج معين بالإكراه وتعده انتهاكا جسيما، وتزامنت خطوات المليشيا في غرس الفكر الطائفي مع  وقائع اعتداءات واسعة طالت عدداً  من رواد الفن الغنائي الشعبي والفنانين الشباب، خصوصا في أمانة العاصمة وريف محافظات صنعاء وذمار وحجة وعمران، سبق هذه الوقائع تعميم أصدره قادة المليشيا في صنعاء بمنع مزاولة الفن وتجريم إحياء الفعاليات الفنية، ونتيجة لذلك غادر الكثير من الفنانين من ذوي الشهرة والجمهور والواسع، وكذلك الفنانون الشباب مناطق سيطرة المليشيا إلى المحافظات المحررة ودول عربية وأجنبية.

وما يقصه هذا التقرير من أنباء الانتهاكات بحق الثقافة والمثقفين خلال العام المنصرم ليست إلا أمثلة بسيطة لسيل جارف من الطمس والتجريف والحملات المنظمة التي استهدفت المشهد الثقافي اليمني.

وكما بدأت المليشيا عام 2019م في استهداف كنوز الآثار الحميرية في محافظة ذمار ختمته أيضا في ذات المحافظة من خلال اقتحام مبنى اتحاد أدباء وكتاب محافظة ذمار والسيطرة على المبنى بهدف الاستحواذ عليه وتمليكه لأحد قادتها في المحافظة، وسبقت عملية السطو هذه ثلاث محاولات مماثلة خلال العام 2019م وأخرى خلال العام 2018م ليتمكنوا مؤخرا في نهاية ديسمبر الماضي من السيطرة عليه.

عام التعافي

المشهد مختلف تماما في المناطق المحررة، فكثير من المراقبين اعتبروا العام 2019م بالنسبة للمناطق المحررة عام التعافي للثقافة والفنون والآداب والإبداع، وبحسب آراء كبار المراقبين للمشهد الثقافي المتاحة في منصات التواصل الاجتماعي التابعة لهم؛ فإن الحراك الثقافي في المناطق المحررة شهد انتقالات نوعية وتعافى من حالة الجمود التي خيمت عليه خلال سنوات مضت، وبالفعل فإن ألق الثقافة عاد مجدداً بفعل الجهود الرسمية والشعبية والمجتمعية والمدنية التي تكاملت لتشكل حراكا مميزا وغير مسبوق منذ بدء الحرب.

سجلت الثقافة انتصارا كبيرا منتصف يناير من العام المنصرم  بإقرار مجلس الوزراء  في الحكومة الشرعية باجتماعه الدوري في العاصمة عدن على انضمام بلادنا لاتفاقية اليونسكو بشأن حضر ومنع استيراد وتصدير الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة، رافق هذا الإقرار جهودا كبيرة في سبيل استكمال المصادقة عليها حتى دخلت حيز التنفيذ، وشكلت هذه الاتفاقية أرضية خصبة لتحركات وزير الثقافة في عقد اتفاقيات ومشاورات مع الجانب الأمريكي لاسترداد القطع الأثرية المتداولة في الأسواق وكسب الدعم لقطاع حماية الآثار في جانب الترميم والتدريب وحفظ وصون المقتنيات، وتوالت هذه الانتصارات النوعية التي تمثلت في مشاريع لم يسبق لها مثيل على المستوى المحلي منها مشروع إدراج الدان الحضرمي في قائمة التراث العالمي واتفاقيات التعاون المشتركة بين الوزارة ومنظمة اليونسكو للحفاظ على التراث الثقافي اليمني بشتى مجالاته، وتنظيم مهرجان عدن للمسرح والإعداد لمهرجان حضرموت للمسرح الذي سيطلق هذا العام، تفرعت عن هذه المشروعات حزمة من الأنشطة أسهمت في إنعاش المشهد من هذه الأنشطة إعادة تشكيل وتأهيل فرق المسرح الوطنية وإجراء ترميمات لمسارح وطنية ظلت مهملة لعقود ماضية وإنشاء مسارح جديدة، وتنظيم معارض الكتب المحلية ومهرجانات التراث والفنون وإطلاق العديد من الجوائز والمسابقات الثقافية.

حراك ثري

رافق الفعل الثقافي المتنامي لوزارة الثقافة فعلا رديفاً لمكاتبها في كل المحافظات، في تناسق تام أظهر مدى تنوع الثقافة اليمنية وثرائها، فكان لمكتب الثقافة في حضرموت انفراده في إحياء المهرجانات الشعبية وتكريم رواد الفن الغنائي وإنشاء مسرح حديث بمواصفات عالمية، ودعم الموهوبين في مجالات الثقافة والفنون، بالإضافة إلى تميزه عن غيره من المكاتب بتسجيل وتوثيق حقوق الملكية الفكرية، ولمكتب الثقافة في عدن دور كبير في إبراز الفنون العدنية الأصيلة واستعادة الوجه الحضاري المشرق للمدينة، كما سجل مكتب الثقافة بمحافظة تعز ريادة كبيرة في خدمة الفنون التشكيلية والبصرية وإبراز التراث الثقافي اللامادي وتنظيم معارض الكتب المحلية ودعم وتشجيع المبادرات الثقافية، وبهذا الصدد يقول مدير عام مكتب الثقافة بمحافظة تعز عبد الخالق سيف ل26 سبتمبر (كان العام 2019م بالنسبة لمحافظة تعز هو عام الثقافة، حيث قدم فيه مكتب الثقافة 80 من الفعاليات مثلت 80 حدثا ثقافيا متنوعا، تمثلت في الفعاليات الوطنية وفنون المسرح والرسوم التشكيلية وغيرها من الفنون ومعارض الكتب وإحياء الأيام العالمية وبرامج الحفاظ على التراث الثقافي )، مضيفا: ( أولت السلطة المحلية اهتماما كبيرا بالجانب الثقافي، وأسهمت النخبة المثقفة بحماس كبير في إنجاح الفعل الثقافي وتحريك المشهد فتحقق النجاح الكبير)، وكان لمحافظتي مأرب والجوف حضورهما في المشهد، ففي مأرب برز حدثان ثقافيان نوعيان أحدهما تجلى في إطلاق اتحاد جامع للأدباء والفنانين، وأما الآخر تمثل في عقد ندوة تخصصية أصلت لآليات توثيق الأدب المقاوم كمصدر إلهام للأجيال، و ولهذين الحدثين أثر حقيقي في تأسيس أرضية صلبة لفعل ثقافي لا يتوقف، وامتازت محافظة الجوف بحراك ثقافي مدني وشعبي اتخذ من وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي وسيلة لبث هموم وقضايا الثقافة والفنون والتراث والآداب في المحافظة.

مجتمع مدني

بعيدا عن الأطر الثقافية الرسمية، توفرت بيئة خصبة ومشجعة لظهور الكيانات والمؤسسات والمبادرات الثقافية، وإنتاج الأعمال الثقافية، حيث نشطت العديد من المنظمات والمؤسسات وبيوت الفن في العاصمة عدن، وكذلك المبادرات الشبابية والطلابية، لعل أبرزها مركز تراث عدن الذي تفرد بمشروعاته النوعية خلال العام المنصرم في تنظيم المواسم التراثية والحفاظ على المعالم العامة والتعريف بتراث عدن الثقافي في الفعاليات الدولية، وفي محافظة حضرموت تضاعفت أعداد شركات الإنتاج الثقافي بما فيها شركات الإنتاج الدرامي التي قدمت أعمالا درامية احترافية توازي شركات الإنتاج المتقدمة، فيما تنامت أعمال وأنشطة المنظمات والمؤسسات والجمعيات الثقافية ومراكز البحوث المتخصصة أبرزها مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر الذي استطاع من خلال كادره المتخصص أن يوثق للتاريخ الثقافي الحضرمي، وهو الجهة الوحيدة التي تصدر مجلة ثقافية متخصصة بعد أن توقفت كافة الصحف والمجلات الثقافية في عموم البلاد.

ومن بين الحراك المدني والشعبي الثقافي في محافظة تعز برزت فرقة مشاقر تعز كمبادرة شبابية ثقافية تهدف إلى تجديد وإحياء التراث الغنائي لمحافظة تعز، وإعادة نشره بأساليب أكثر تميزا وجذبا ومواءمة، بالإضافة إلى تعريف الأجيال بتقاليد وأعراف وأنماط الموروث الشعبي الذي تميزت به المحافظة، وبالنسبة لمحافظة مأرب فإنها شكلت ملاذا آمنا لكثير من المثقفين والمفكرين ورواد الفن والأدب، ومنها انطلق المثقفون الشباب وكذلك الجيل الأول لتفعيل المشهد الثقافي بكافة مجالاته التي برز منها العمل الروائي، فقد ألهمت هذه المحافظة عدداً من كتاب الرواية الشباب إنتاج أعمال روائية فريدة ونوعية عكست قضايا المرحلة بين ثناياها.

حجم المفارقة

ما استعرضه التقرير سابقا يوضح جزءا من المشهد الثقافي اليمني في مناطق سيطرة المليشيا المتمردة وفي المحافظات المحررة التي استعادت فيها الثقافة تعافيها، ولفهم المعادلة أكثر يمكننا قياس ذلك من خلال البرامج الثقافية المقدمة للطفل، ففي الوقت الذي قامت فيه المليشيا بتلقين الأطفال ثقافة العنف والكراهية والإرهاب واستدرجتهم إلى مواقع الاشتباكات المباشرة، قامت وزارة الثقافة اليمنية بافتتاح مكتبة مسواط للأطفال في العاصمة عدن وتزويدها بنفائس كتب الطفل ومرافق التعليم والتعلم باللعب، ومنذ افتتاح المكتبة مطلع العام 2019م وحتى اللحظة قدمت المكتبة للأطفال الكثير من البرامج الثقافية والتعليمية والمهارية التي آتت ثمارها في تنمية الطفولة لديهم وغرست لديهم ثقافة التعايش والسلام والتماسك المجتمعي وقيم التسامح والإنتاج والفاعلية.

بين المشهدين بعد المشرقين لكن ثقافة البناء والتسامح والقيم هي من تنتصر، فلها العاقبة والغلبة والانتصار والتمكن، أما ثقافة الدمار والفوضى فستهوي بها الريح في مكان سحيق.

 

مواضيع متعلقة

اترك رداً