في الفكر الشرطي الحديث.. الأمن المجتمعي الناعم

سبتمبر نت/ مقال – عميد ركن / نجيب سعد الناصر
يُعدّ الأمن المجتمعي في العصر الرقمي مسؤوليةً مشتركة تتقاسمها مؤسسات الدولة ومكوّنات المجتمع كافة، في ظل التحوّلات المتسارعة في السياسات والأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية محليًا وإقليميًا ودوليًا.
فالأمن والاستقرار المستدام مطلبٌ أساسي لكل فرد، والشرطة هي الجهة المخوّلة قانونًا بتحقيقه، غير أنّ أداؤها الأمثل يظلّ مرهونًا بتعاون المجتمع معها، باعتباره حجر الزاوية في منظومة الأمن الوطني. إذ يسهم المجتمع في الإبلاغ عن الجرائم والادلاء بالشهادة ورصد السلوكيات المشبوهة، مما يجعله شريكًا فعّالًا في الوقاية من الجريمة.
وفي ظل الطفرة الرقمية وتطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، برز مفهوم “الأمن المجتمعي الناعم” بوصفه أحد أهم أدوات الفكر الشرطي الحديث. فهو يمثّل القوة التي تبني الوعي وتؤثر في السلوك المجتمعي دون استخدام الإكراه، عبر أدوات متعددة تشمل الإعلام والتعليم والثقافة والفنون ومنابر الإرشاد.
يهدف هذا المقال إلى لفت انتباه المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي، والمؤسسات الإعلامية، والتربوية، والإرشادية إلى القيام بدورهم الوطني والمحوري في مساندة الأجهزة الأمنية لوقاية المجتمع من الجريمة وتعزيز ثقافة الأمن الوقائي، من خلال توظيف القوة الناعمة كركيزة أساسية لتحقيق أمنٍ مستدامٍ قوامه الثقة والمعرفة والمسؤولية المشتركة.
أولًا: مفهوم الأمن المجتمعي الناعم
القوّة الناعمة في المجال الأمني هي قدرة المجتمع ومؤسساته على التأثير الإيجابي في سلوك الأفراد من خلال الإقناع والوعي والقدوة، وفي هذا السياق، يُعدّ الأمن المجتمعي الناعم أحد مكونات الأمن القومي لأي دولة، لأنه يسهم في تحصين الفكر وتشكيل الوجدان بما يتفق مع مبادئ النظام والقانون، ويعزز روح الانتماء والمسؤولية.
إنّ الوعي الأمني ليس مسؤولية الأجهزة الرسمية وحدها، بل هو واجب جماعي تشترك فيه الأسرة والمدرسة والإعلام والمؤسسات الدينية والثقافية. فالقوة الناعمة المتولّدة من داخل المجتمع نفسه تُعدّ خط الدفاع الأول في مواجهة الفكر المنحرف والسلوك الإجرامي، وهي التي تمهّد لبناء ثقافة أمنية قائمة على القناعة الذاتية، لا على الخوف أو الردع القسري.
ثانيًا: أدوات الأمن المجتمعي الناعم في مواجهة الجريمة
- الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي
تلعب وسائل الإعلام بمختلف أشكالها، إلى جانب المنصّات الرقمية وحسابات المؤثرين، دورًا حيويًا في نشر التوعية الأمنية وتعزيز الثقافة القانونية.
ومن خلال الحملات التثقيفية، والبرامج التوعوية، والمحتوى الرقمي المسؤول، يمكن للإعلام أن يُسهم في غرس قيم احترام القانون ونبذ العنف والجريمة.
إنّ الإعلام الواعي ليس ناقلًا للأحداث فحسب، بل هو شريك أمني في بناء الثقة بين المواطن ورجل الأمن، وتحفيز المشاركة المجتمعية في الوقاية من الجريمة.
- التعليم والتربية الأمنية
تُعدّ المدرسة والجامعة بيئتين أساسيتين لتنشئة جيل يتحلّى بالمسؤولية والانضباط واحترام النظام.
وإدماج مفاهيم التثقيف الأمني ضمن المناهج الدراسية والأنشطة الطلابية يسهم في تكوين وعي مبكر بخطورة الجريمة وأهمية القانون.
فالتربية الأمنية لا تُعلّم العقوبة بقدر ما تُعلّم الوقاية، وتغرس في الأجيال سلوكًا حضاريًا يرفض الجريمة بالفطرة.
- مؤسسات الأوقاف والإرشاد
تلعب مؤسسات الأوقاف والإرشاد دورًا محوريًا في تهذيب السلوك وضبط القيم الاجتماعية من خلال خطب الجمعة والدروس الوعظية والأنشطة التوعوية.
وعندما تُوظّف هذه المنابر لخدمة الأمن الوقائي، فإنها تعزز مفاهيم التسامح، والتعاون، واحترام النظام العام، وتُسهم في بناء وعي ديني سليم يدعم الاستقرار ويقاوم الانحراف الفكري والسلوكي.
- الفنون والإعلام الدرامي
تُعدّ الفنون من أقوى أدوات الأمن المجتمعي الناعم لما تمتلكه من قدرة على التأثير في العقول والوجدان.
فالأعمال الدرامية الهادفة، والأفلام التوعوية، والمسرحيات الاجتماعية يمكن أن تُجسّد مخاطر الجريمة وتُبرز نتائجها المدمّرة، مما يُحدث ردعًا نفسيًا ومعنويًا قائمًا على الاقتناع والوعي، لا على الخوف وحده.
ثالثًا: التكامل بين الأمن المجتمعي الناعم والأمن المؤسسي
يتطلّب توظيف الأمن المجتمعي الناعم رؤية استراتيجية وتكاملًا مؤسسيًا بين الأجهزة الأمنية والقطاعات الإعلامية والتعليمية والثقافية والاجتماعية.
فالأمن الحديث لم يعد حكرًا على المؤسسة الشرطية وحدها، بل أصبح منظومة تشاركية يتداخل فيها دور المجتمع المدني مع الجهود الرسمية لتحقيق أمنٍ مستدام.
إنّ العلاقة بين الأمن المجتمعي الناعم والأمن المؤسسي علاقة تكاملية وتبادلية تقوم على قاعدة أن الوقاية المجتمعية مسؤولية مشتركة، وأن بناء الثقة مع المجتمع هو الأساس الحقيقي للنجاح الأمني في العصر الحديث.
ختاماً:
إنّ الأمن المجتمعي الناعم يمثل قوة مساندة للأجهزة الأمنية، فالمجتمع الذي يمتلك وعيًا أمنيًا وثقافة قانونية راسخة هو مجتمعٌ قادر على حماية نفسه من الانحراف والجريمة.
والاستثمار في أدوات الأمن المجتمعي الناعم هو استثمار في أمن المستقبل، يؤسس لمرحلة جديدة من الفكر الشرطي القائم على الشراكة، والوقاية، والثقة المتبادلة بين المجتمع والمؤسسة الأمنية.
فالأمن الحقيقي لا يُبنى بالقوة وحدها، بل بالعقل، والوعي، والمسؤولية المجتمعية المشتركة.