تقاريرمقالات

26سبتمبر و14 أكتوبر.. واحدية النضال والتكامل الثوري

 

سبتمبر نت: منصور الغدرة

لم يعد هناك خلاف بين الباحثين والمؤرخين حول واحدية الثورة، فقد اثبتت كل مذكرات المناضلين هذه العلاقة وهذه الواحدية، بل أن غالبية المؤرخين والمناضلين اكدوا في مذكراتهم على واحدية نضالات اليمنيين، وأن تضحياتهم تتكامل مع بعضها، وأن خططهم كانت واحدة ومتناغمة، ولم تكن في أية مرحلة من مراحل النضال شطرية أو مشطرة، بما في ذلك الحركات والانتفاضات التحررية التي مهدت للثورة اليمنية هي الأخرى لم تكن شطرية ولا منفصلة عن الشطر الآخر، وإنما كانت كلها مطالب التحرر من الاستبداد و الاستعمار.
على مدى القرنين الاخيرين، ونضالات الحركة الوطنية اليمنية، في معترك نضالي واحد ولأجل تحقيق هدف واحد وغاية واحدة، وهي التحرر من الاستعباد والاستبداد للاحتلال الاجنبي لبلادهم-الفارسي ممثلا بالإمامة وحليفها الاحتلال البريطاني. بل يمكن العودة بهذه المرحلة إلى الثائرين علي بن الفضل، مرورا بسعيد الفقيه ونشوان الحميري والهمداني والمحلوي والقردعي وثوار 48 و62 و63وبين كل ذلك من انتفضات وحركات تحررية وتمردات رفضا للعبودية كانتفاضة يافع بقيادة محمد عيدروس العفيفي، وصولا إلى معركة اليوم التي يخوضها اليمنيون، فكلها ثورات ترفض الاستبداد والعبودية وتطالب الاستقلال والحرية لكامل اليمن، وليس لشطر منه أو رقعة من جغرافيته الكبيرة؛ بل أن عدو اليوم هو امتداد لتحالف العدو القديم، هو نفسه تحالف الاحتلال الفارسي الانجليزي الذي خاض اليمنيون ضده نضالات طويلة وقدموا في سبيل الحرية والاستقلال تضحيات كبيرة من احتلال كهنوتي اذاق الشعب اليمني جيلا بعد جيل مرارة الحياة- أي ان اليمنيين مستمرون في ثورتهم ضد كهنة اليوم وحلف الاحتلال نفسه بنسخته الجديدة، والذي هو امتداد لكهنة الأمس البعيد..
وما ديمومة الثورة اليمنية، ومعركة اليمنيين التحررية ضد كهنة الاحتلال الفارسي البريطاني اليوم، إلا تأكيد على واحدية نضالاتهم، وواحدية ثورتهم واهدافها وغاياتها، وانطلاقا من هذه القاعدة الازلية والحقيقة الوجودية، فإن الثورة اليمنية(٢٦سبتمبر و١٤ أكتوبر) ثورة لا ثورتان.
وفي زخم الاحتفاء بعصارة نضالات الحركة الوطنية اليمنية، الذي كان اليمنيون احتفلوا قبل اسبوعين بالعيد ال63لثورة 26سبتمبر، ها هم اليوم يحتفلون بالعيد ال62لثورة 14أكتوبر المجيد، بإيمان راسخ، رسوخ الجبال لا تزعزعه عن الحقيقة الدامغة أن الثورة اليمنية الواحدة في النضال والتضحيات التي خاضها الشعب اليمني وما يزال، لنيل الحرية والاستقلال، وحتى إن كانتا صنعاء وعدن عاصمتين، لنظام احتلالي واحد- حلف الاحتلال الفارسي الانجليزي- لكنهما توأمتان في احتضان رموز الحركة الوطنية، وشكلتا قاعدتي انطلاق لإنجاز ثورة اليمنيين والوصول إلى غايتهم.
إذ أن مدينة عدن كانت قد احتضنت في الاربعينيات قادة الحركة الوطنية من الشمال، الذين أطلقوا منها شرارة العمل الثوري المعارض للإمامة في صنعاء عبر الجمعية اليمنية الكبرى وحزب الاحرار وصحيفة صوت اليمن وصحيفة الفضول، وكان معظم الشخصيات المفكرة والمنفذة لحركة-الثورة 48م الدستورية- تقريبا تقيم في عدن قبل الثورة، وعاد كثير منهم إلى صنعاء بعد إعلان قيام الثورة ليقعوا في قبضة الطاغية أحمد.
وكانت استضافت رموز الحركة الوطنية المعارضة للاحتلال في الشمال والجنوب على حد سواء، خلال عهد الاحتلال، وقبل قيام ثورة 26سبتمبر، تتوقف على طبيعة العلاقات بين سلطتي الاحتلال في الشمال وفي الجنوب، توترا وانسجاما. فإذا ما توترت العلاقة بينهما وتصادمت مصالحهما، احتضن كل منهما معارضة الآخر ليمارس من خلالها ضغوطات على الاخر للحصول على تنازلات؛ وإذا ما تحسنت العلاقة بينهما واتفقا على تسيد مبدأ التعاون بينهما، حلت المصيبة على الاحرار وعامة الشعب اليمني، جُمدت صحيفة «الفضول»، التي كان الاحرار يعلنون من خلالها مواقفهم الصريحة المناهضة للحكم وسياسته في الشمال، فسحبت سلطات الاحتلال الإنجليزي ترخيص عملها ومنعها من الاصدار من قبل المندوب البريطاني بضغوط من الطاغية أحمد في العام 1953م.
نضالات تفضح تحالف الاحتلال
الوقائع أثبتت تحالف الاحتلال السلالي الفارسي البريطاني، نستقي ذلك بما قامت به سلطات الاحتلال البريطاني في عدن من اعمال عدائية ودعم لوجستي ومادي لحليفهم من فلول الامامة فور قيام ثورة 26سبتمبر، لأن الاحتلال البريطاني يدرك تماما أن انتصار الثوار على حليفها في الشمال معناه انتصار عليها في الجنوب وتأكيد على ان الدور قادم على الاحتلال في الجنوب، وان الثورة قادمة لا محالة.
لا شك أن انتصار ثورة سبتمبر، كان مؤشراً كبيراً لانتصار الثورة ضد الاحتلال في الجنوب، ولهذا وقف الاستعمار البريطاني ضد نجاح ثورة سبتمبر، وانفق المال والسلاح وقدم الدعم السياسي في سبيل إفشال الثورة في الشمال وإعادة الإمام الهارب البدر إلى الحكم في صنعاء، وذلك لشعور المستعمر البريطاني بأن صنعاء التي وضعت أول أهداف ثورتها السبتمبرية التخلص من الاستبداد والاستعمار لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ثورة أشقائها اليمنيين في الجنوب، فسعت بريطانيا إلى دعم الملكيين والقبائل التي تساندهم للحيلولة دون نجاح الثورة وضربها مبكرا.
ولأجل ذلك، سارعت إلى إنشاء محطة لاسلكي ضخمة في بيحان للتجسس على المخابرات اليمنية، وزودت المحطة بمجموعة من خبراء الشفرة، واستعملت بريطانيا كل الوسائل لخنق الثورة وحصرها في أضيق نطاق وانفقت على تلك المؤامرات المال والسلاح والدعاية، واحتلت منطقة حريب ووضعت فيها أحد أمراء الأسرة الطريدة-الحسن- كي تكون نقطة انطلاق إلى الداخل اليمني في الشمال.
وكانت مخاوف الاستعمار والرجعية في مكانها، لكنها لم تنتصر في نهاية الأمر، بل انتصر اليمنيون بإرادتهم ورغبتهم وتطلعهم للانعتاق والتحرر وبناء الدولة الحديثة، فصنعاء بعد ثورة سبتمبر 62م تبنت قضية تحرير الجنوب واحتضنت زعماءها، وأصبحت صنعاء الستينيات هي عدن الأربعينيات، ومع أول تشكيل حكومي في صنعاء بعد الثورة عين قحطان الشعبي وزيراً في الحكومة لشؤون الجنوب اليمني، ولاحقاً مستشاراً للرئيس المرحوم السلال لشؤون الجنوب، وشغلت قيادات كبيرة من الجنوبيين مناصب رفيعة في الشمال، ومع تبني الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الكفاح ضد بريطانيا ومناهضته للاستعمار البريطاني تكامل العمل الثوري بين صنعاء والقاهرة وعدن في دعم ثوار وثورة الجنوب، وأدت إذاعة صوت العرب في القاهرة دوراً إعلامياً كبيراً في التنديد ببريطانيا وسياستها وفي تنوير الشعب العربي عامة واليمن خاصة.
مثلما كانت عدن ملجأ للأحرار الفارين من استبداد كهنة احتلال الشمال، كانت تعز الملجأ الآمن للأحرار المعارضين للاحتلال البريطاني في الجنوب، خلال فترة الخمسينيات والستينيات، حيث شكلت مأوى آمن للفارين من ملاحقات و بطش سلطات الاحتلال في عدن بما في ذلك السلطانان الثائران، محمد عيدروس العفيفي(السلطنة اليافعية) وعلي عبدالكريم(السلطنة العبدلية) اللذان طالبا بالحرية والاستقلال واعلن تمردهما على سلطات الاحتلال التي كانت تعتقد انها ماسكة بلجامهما.
الكثير من أبناء الجنوب فروا إلى مدينة تعز والبيضاء، هرباً من بطش الاستعمار وعملائه في حكومة ما يُسمى اتحاد الجنوب العربي كسلطان لحج علي عبد الكريم وأربعمائة من حراسته لجأوا جميعاً إلى مدينة تعز، وكذا السلطان الثائر محمد بن عيدروس العفيفي سلطان يافع السفلى والسلطان فضل محمد هرهرة، وعبدالله بن عمر هرهرة، وغيرهم من سلاطين ومشايخ جنوب اليمن، لكن السلطان العفيفي والسلطان علي عبدالكريم، كانت لهما قيادة الانتفاضة والتمرد على سلطات الاحتلال، ويعتبران من اوائل الداعين إلى الكفاح المسلح لنيل الاستقلال وطرد الاحتلال، ومن اوائل من اسسوا جبهة تحرير الجنوب، لكن التاريخ لم ينصفهما فتم تصفية بعضهم ونفي البعض الآخر، فقط بتهمة أنهم كانوا سلاطين ومشيخيات، ولم تشفع لهم انتفاضاتهم في عقدي الاربعينيات والخمسينيات..!.
ويكفي للتأكيد على واحدية نضال اليمنيين وثورتهم، ما اورده المناضل والمفكر الوحدوي الكبير عبدالله عبدالرزاق باذيب، في كتابه بعنوان «هذه هي القضية في اليمن» كان قد أصدره في سبتمبر 1963م بمناسبة الاحتفال بالذكرى الأولى لقيام ثورة 26 سبتمبر- أي بعد انقضاء عام من قيام الثورة اليمنية في السادس والعشرين من سبتمبر 1962م ويقع الكتاب في 16 صفحة وقام معهد التدريب والتأهيل الإعلامي بعدن بإعادة طباعته في مايو 2010م وتوزيعه بمناسبة الذكرى العشرين للوحدة وقيام الجمهورية اليمنية.
وقال المؤلف عن واحدية الثورة اليمنية: تحل الذكرى الأولى والعدوان الرجعي الاستعماري المسلح آخذ في الانكسار تحت ضربات المد الثوري والعصابات الملكية تولي الأدبار فيما مواقع الثورة تتوطد وتتوالى انتصاراتها في الداخل وفي الميدان الدولي. واضاف: “وتحل هذه الذكرى وجنوبنا العزيز يقترب أكثر فأكثر من أهدافه الغالية في الخلاص من السيطرة الاجنبية وتقرير مصيره بنفسه، وقضيته تخرج بقوة إلى المجال الدولي ويتقرر لأول مرة اثارتها في الدورة الحالية للجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، وتصبح القضية موضع اهتمام ومساندة الرأي العام العالمي وتتركز عليها انظار العالم، وليس هذا من قبيل الصدفة أن يحدث هذا بعد الثورة.. وسوف تظل الثورة من أهم العوامل في دفع قضية الجنوب إلى الأمام والتعجيل بساعة الخلاص”.
لم تتوقف تأكيدات الاستاذ المرحوم عبدالله باذيب، على واحدية الثورة وواحدية العدو- الاحتلال- عند هذا، جسدها في كتاباتها ومقالاته الصحافية، التي دفعت بسلطات الاحتلال إلى اعتقاله ومحاكمته ونفيه، جراء كتاباته الجريئة والناقدة لكهنة احتلال اليمن جنوبه وشماله، كان ابرزها هذه المحاكمات محاكمته الشهيرة في عام 55م من قبل السلطات احتلال الجنوب، على خلفية مقالته المشحونة بالهجوم والانتقادات اللاذعة (المسيح الجديد الذي يتكلم الإنجليزية)، غير ان خروج الجماهير الغاضبة في مظاهرات بشوارع عدن وفي ساحة المحكمة، تدين المحاكمة وتعلن تضامنها مع باذيب. وفي مقاله “عبقري الصرخة” الذي يرد فيه على كتابات تدعو إلى التعايش مع الحكام لتعتقله السلطات وتقدمه للمحاكمة بتهمة “إثارة الكراهية والعداء ضد الحكومة وبين طوائف وطبقات السكان” إلا ان سلطات الاحتلال على إثر المساندة الشعبية خففت الحكم من نفيه الى مسقط رأسه في منطقة الشحر بحضرموت لأجل ابعاده عن الحراك السياسي ولكي لا يزعج بكتاباته سلطات الاحتلال في مركز حكمها بعدن، إلى الافراج عنه، ولم يتوقف عن كتابته ومهاجمته للاحتلال، وإنما استمر في مهاجمة سلطات الاحتلال في الجنوب والشمال على حد سواء، وحينما استشعر بأن سلطات الاحتلال تنوي اعتقاله، تسلل خلسة هاربا في العام 1959إلى تعز لي عاش في مدينة تعز هارباً من بطش الانجليز وفتح فيها أول مكتب لتحرير الجنوب اليمني، وأصدر صحيفة الطليعة كأسبوعية سياسية كانت ذائعة الصيت كما كانت تجمع القوى الوطنية بلا استثناء لكن الامام أحمد سرعان ما أصيب بالذعر لصوتها الوطني الصادح فقرر إغلاقها، فعاد إلى عدن لكنه لم يهدأ أبداً حيث أنشأ ندوة (أنصار الأدب الجديد) كما أسس جبهة (الكُتّاب الأحرار) التي كانت تضم نخبة الثقافة اليمنية.
وقبلهم الأدباء والمثقفون والشعراء الذين كانوا قد لجأوا إلى الشمال على امل أن يساعدهم أئمة الشمال، معتقدين ان هؤلاء الكهنة محتلي الشمال على خلاف مع بني عمومتهم محتلي الجنوب، غير مدركين أن التحالف التقليدي القائم بينهما عميق واستراتيجي وقديم، وان التباينات التي تنشب بينهما هنا وهناك ليست إلا مناوشات لمصالحهم وضد مصالح الشعب اليمني، وبحيث لا يصل هذا التباين إلى المساس والاضرار بمصالح الحليفين- الاحتلال الفارسي الانجليزي.
فها هو الطاغية يحيى الذي كان يسمي مدن الجنوب بالنواحي التسع. بينما كانت بريطانيا تسميها محميات، لذلك خاطبه الشاعر عبدالرحمن عبيد السقاف بما يؤمن به، ويناشده بتحرير الجنوب فيقول:
إن النواحي التسع تشكو ضيماً
فمتى ستنقذها عليك سلام
ولحقه الشاعر محمد سعيد جرادة، في قصيدة له القاها في مدينة تعز أمام الطاغية أحمد عام 1957م يقول في مطلعها:
أرض وفيها طعنة مسمومة
تدمي فؤاد الشاعر المتألم
وقاسم الجنوبيين محنتهم، شعراء ومثقفي الشمال، فيقول عبدالله حمران:
أشتكي من محنة الجنوب وفوقي
محن لا يطيقهن الجنوب
وكما عملت عدن وأبين والضالع ولحج وشبوة، في جمع الدعم المادي و التبرعات لإسناد ثورة 26سبتمبر، وفتحت مكاتب لتسجيل المتطوعين وارسالهم للقتال والدفاع عن الجمهورية الوليدة والتصدي للمؤامرات لؤاد الثورة في مهدها في حرب استمرت اكثر من سبع سنوات عجاف.
شكلت كافة المدن الشمالية، وبالذات العاصمة صنعاء ومحافظات تعز وإب والبيضاء، المحطات والملاذ الآمن لإعداد وتدريب مقاتلي فصائل الكفاح المسلح، وقواعد انطلاق شرارة ثورة 14 أكتوبر 1963 من جبال ردفان الشماء بقيادة المناضل راجح غالب لبوزة، واعلان الكفاح المسلح ضد الاحتلال الغاصب والنصف الآخر من حلف الاحتلال الفارسي البريطاني، ومن صنعاء وتعز، اعلن اشهار التنظيمات السياسية والحزبية وفتح مكاتب لقيادة الكفاح المسلح من رموز الحركة النضالية الوطنية الجنوبية ضد الاستعمار البريطاني، فنضجت الخلايا الحزبية الجنوبية في الشمال أولا، بل إن تكوين جبهة تحرير الجنوب المحتل، ثم الجبهة القومية فقد تم اعلان تأسيسها في اجتماع عقد في دار السعادة بصنعاء بإشراف من الرئيس السلال، ورعاية من الرئيس الزعيم جمال عبدالناصر، الذي أبدى موافقته على تقديم السلاح والمال للثوار لشن حرب ثورية مسلحة منظمة ضد الاحتلال البريطاني في الجنوب، فاستفاد الثوار من هذا الدعم واستحدثت حقيبة وزارية في حكومة ثورة 26سبتمبر أسميت بوزارة شؤون الجنوب، كما افتتح في صنعاء مكتب لجبهة تحرير الجنوب، انتظمت صفوفهم ووحدوا قيادتهم وتآزرت المجاميع الجنوبية المتواجدة في تعز وصنعاء وإب ورُشح الرئيس الراحل قحطان الشعبي رئيساً للجبهة القومية وشكلت خلال الخمس السنوات بعد ثورة سبتمبر أقوى المواقع لانطلاق الثورة الأكتوبرية.
ولا يمكن أن يختلف اثنان عن الدور الذي لعبته مدينة تعز في دعم وإسناد ثورة 14أكتوبر حتى نيل الاستقلال، والتي جندت نفسها ارضها وناسها شجرها وحجرها، لخدمة الثورة اليمنية الاكتوبرية، احتضنت رموز النضال الجنوبي، ومعسكرات تدريب مقاتلي فصائل الكفاح المسلح، وفيها انشأت اذاعة خاصة لثورة 14أكتوبر-إذاعة تعز- وفيها احتضنت مكاتب فصائل الكفاح المسلح والتنظيمات السياسية، ومنها انطلق المقاتلون الى جبهات المعارك والعمل الفدائي ضد الاحتلال البريطاني، ومنها ارسل السلاح والغذاء للمقاتلين واسرهم في الجنوب، وفي قلب تعز وقف الزعيم جمال عبدالناصر وسط الجماهير في ميدان الشهداء، يوم 26إبريل 1964م بتعز ووجه صرخته المدوية ضد الاستعمار البريطاني طالباً من (العجوز الشمطاء) أن تأخذ عصاها وترحل من عدن والجنوب، ومن وسط مدينة تعز أرسلت اول شحنة اسلحة للثوار في جبال ردفان، مقدمة للثوار في ردفان من مصر عبدالناصر، وفاء للوعد الذي قطعه على نفسه بدعم الثورة حتى رحيل الاحتلال من ارض جنوب اليمن.
٢٦ سبتمبر و١٤أكتوبر
لكن يمكن القول إن الفرق بين ثورة 26سبتمبر وبين ثورة 14أكتوبر، أن ثورة سبتمبر كانت قد تفجرت شرارتها في المدينة وتقدمت باتجاه الريف، بعكس ثورة أكتوبر التي انطلقت شرارتها في الريف ثم تقدم حمم بركانها نحو المدينة، وفي هذا يقول الاستاذ الكبير عبدالله البردوني في كتابه اليمن الجمهوري: منذ بداية الخمسينيات إلى مطلع الستينيات تلاحقت الانتفاضات ضد الانجليز في عدة اشكال بعضها مسلح وبعضها غير مسلح وكانت الإضرابات والاحتجاجات والمظاهرات تجتاح عدن من وقت لآخر، كما كانت الأعمال المسلحة تشب وتخبو.
إذ اندلعت شرارة ثورة 14أكتوبر1963،والعمل المسلح في الريف، حاول الاحتلال البريطاني، ألا يسير في الاتجاه المعاكس لما سار عليه حليفه الامامة في الشمال، فجعل المحميات المتعددة سلطة واحدة عاصمتها عدن وحكامها من سلاطين المحميات تحت مبدأ الاتحاد، والسلاطين وزراء في حكومة اتحادية وسلاطين مناطق، فخلت أرياف الجنوب من منتفعين بسلطة الاستعمار ومن قابلية تشكيلاته في عدن حيث تركزت القوى المقاومة للثورة فتفجرت الثورة من جبل ردفان في شهر أكتوبر 63م.
وفي هذا يقول البردوني في كتابه “الثقافة الثورية في اليمن”: تكونت السمات الأولى على وجه الثورة الاكتوبرية بأنها ريفية التحرك والأنفاس فأشبهت ثورة ردفان ثورة الصين في الأربعينيات وثورة كوبا في آخر الخمسينيات”.
كانت القوى المناهضة للثورة الاكتوبرية تتركز في عدن ومتحصنة بسلطات ومال وسلاح ومناصب الاحتلال فكان دخول ثوار أكتوبر عدن تحقيقا لما كان مستحيلاً، لأنها كانت أحصن من سور صنعاء، فكان السبب في مستوى عظمة النتيجة، إذ اتقد الحس الثوري في عدن متصلاً بزحف ردفان، حتى أن التفجيرات التي كانت تحدث في عدن قبل دخول الثوار كانت تعد من الأحداث العادية عند المندوب السامي البريطاني باعتبارها من صنع أفراد مشاغبين أو متسللين، ليتفاجأ بحرب الشوارع، في قلب مدينة عدن، يخوضها الثوار بمهارة أقوى من حرب ردفان، لم يكن الاحتلال يتوقعها.
وهذا بخلاف ثورة سبتمبر التي ظهرت في المدنية أولاً ثم في الريف ثانياً وكان أوائل الثوار الذين قادوا العمل الثوري في الشمال من المدينة إلى الريف وأدركوا أهمية الربط بين المدنية والريف في الوعي بالثورة كما يتحدث عنهم الدكتور عبدالعزيز المقالح: هو الشيخ حسن الدعيس وتلاه آل أبو رأس وآل القردعي والذهب وآل أبو لحوم وآل دماج والشيخ الشهيد حسين الأحمر وولده حميد والشيخ الشهيد عبداللطيف بن راجح.
وشكل انتصار ثورة 14أكتوبر،حافزا قويا للجمهورية الوليدة بصنعاء في إحراز -هي الأخرى- انتصار مماثل في دحر الاعداء وفك الحصار عن عاصمتها صنعاء من الحزام الناري الذي ضربه التحالف الفارسي البريطاني في محاولة اسقاط العاصمة والقضاء على جمهوريتها الوليدة.
.. والاحتلال العدو واحد
وأما التأكيد على واحدية الاحتلال الفارسي الانجليزي، نسوق هذه الجزئية من السيرة النضالية للثائر السلطان محمد عيدروس العفيفي، الذي كان قد تأثر بالفكر التحرري عقب ثورة 23يوليو المصرية، فبدأت اهتماماته في نيل الاستقلال والمطالبة برحيل المستعمر الغاصب، وترجم ذلك في مراسلاته ولقاءاته بالأحرار في عدن وخطاباته التوعوية بضرورة الانخراط في النضال حتى طرد الاحتلال من بلادنا، لذلك راسل المشايخ وزعماء القبائل الجنوبية والشمالية، يدعوهم إلى مساندته والوقوف إلى جانبه في معركة التحرير، بما في ذلك مطالبته الطاغية أحمد، مساندته في هذه المهمة الوطنية، معتقدا ان امر طرد الاحتلال البريطاني سيسر الطاغية احمد، لكن مساعيه في الحصول على اسلحة ودعم من الطاغية في تعز باءت بالفشل.
على إثر هذه التوجهات، كثفت سلطات الاحتلال في عدن، من حملاته العسكرية على مناطق السلطنة العفيفية في ملاحقته بهدف التخلص منه وتصفيته، ما اضطر في 17 ديسمبر 1957م إلى مغادرة مقر اقامته في مناطق ساحل أبين-جعار- والانتقال إلى عاصمة سلطنته (القارة) في جبال يافع، وارسلت سلطات الاحتلال الحملات العسكرية في محاولة منها لاقتحام القارة والسيطرة عليها، لكنها انكسرت أمام صمود العفيفي ومقاتليه، لتلجأ سلطات الاحتلال إلى سلاح لجوء الذي بدأ في قصف منازل السلطان في القارة وقرى يافع بتاريخ 16يونيو عام 1958، حتى اواخر عام1961، مخلفا دمارا كبيرا في منازل المواطنين ومزارعهم، وظلت سلطات الاحتلال تطارد الثائر العفيفي ومقاتليه في جبال يافع عبر ارسال الحملات العسكرية وشن الغارات- حينها حاول العفيفي الحصول على دعم الطاغية احمد ونزل إلى تعز إلاَّ أن محاولاته باءت بالفشل، والسبب في ذلك واضح أن كهنة الامامة وسلطات الاحتلال البريطاني حلفاء، تجمعهما الغاية من احتلالهما لليمن وابقاء شعبه متخلفا، وممزق الجغرافية والموقف باستخدامهما سياسة (فرق تسد) لضمان بقاء مصالحهما وتحقيق اهدافهما وترسيخ عبودية واستبداد الشعب اليمني.
لم يحصل الثائر محمد العفيفي السلاح الذي كان يأمل الحصول عليه من الطاغية أحمد، وخاصة المضاد للطائرات، فعاد إلى جبال يافع واتخذ موقف الدفاع وتأمين وضع الجبهة من الداخل من أي تصدع أو انهيار، والذي حاولت سلطات الاحتلال خلخلته مرات عدة من خلال عملائها المحليين الذين عززت عملهم بسلسلة طويلة من العمليات العسكرية والاستخباراتية، تارة بالترغيب ببذل الاموال والمناصب، وتارة بالترهيب وتهديد كل من يتعاون مع العفيفي بقصف منازلهم واحراق مزارعهم ،استمر قصف سلاح الجو لأكثر من اربع سنوات، بهدف تحطيم الروح المعنوية عند القبائل وبالتالي قتل روح المقاومة لديهم.
ورغم موقف الطاغية المخيب لآمال الثائر محمد عيدروس، إلا أن الاخير كان يتصدى للحرب الاعلامية والنفسية التي يشنها الاحتلال، من خلال اعلام الطاغية عبر اذاعة صنعاء وصحيفة «سبأ» في تعز، حيث شكلتا منبرا ومنصة رئيسية مع اذاعة صوت العرب، يبث عبرها العفيفي رسائله إلى مشايخ وإلى الشخصيات الاجتماعية والقبلية في يافع، فضلا إلى المنشورات التي يوزعها بين الحين والآخر وعبر البيانات التي كان يرسلها لبثها من إذاعة صوت العرب من القاهرة وعبر إذاعة صنعاء وصحيفة «سبأ» في تعز؛ والتي يرسل من خلالها أيضا رسائل إلى أنصاره ومؤيديه في عدن. كما ساعدته في ذلك البرامج والتعليقات التي كانت تذاع من صوت العرب ومن صنعاء وتتكلم عن الثورة في يافع وتشحذ همم أبنائها على التحدي والصمود في وجه قوة عدوهم وجبروته.
وقال الدكتور فضل محمد عيدروس العفيفي، نجل السلطان العفيفي: ان سلطات الاحتلال وأصدقاءها عملوا على التشكيك بالأهداف المعلنة لخصمها ومارست عمليات الترغيب والترهيب ضد قبائل يافع لتفريقهم من حوله وأمدتهم بالمال والسلاح وكسبت البعض وحيدت البعض.. وأنها كانت تمد المال والسلاح والذخيرة لأنصارها واتباعهم وكان على السلطان محمد أن يفعل الشيء نفسه مع من يواجهون أولئك من اتباعه، وقد أرهقه ذلك كثيراً إذ لم يكن رجل عصابات يضرب ويهرب بل رجل دولة يحافظ على حدود دولته، ويترتب على ذلك التزامات كثيرة وثقيلة.
وأكد في مذكراته التي نشرها قبل يومين من اعلان وفاته في العاصمة المصرية القاهرة يوم
2021/12/12، ان سلاح الجو البريطاني قام خلال الفترة بين 13فبراير، إلى 9 أبريل عام 1961م بقصف قرى ومناطق يافع بشكل متواصل ليلاً ونهاراً ورافق ذلك القصف إسقاط منشورات تدعو قبائل يافع إلى عدم مناصرة محمد بن عيدروس أو تقديم العون له، وان من يفعل ذلك سيتعرض منزله ومزارعه للقصف والاتلاف.
وأضاف الدكتور العفيفي« عندما وجد السلطان محمد انه عاجز عن مقاومة وردع سلاح الجو البريطاني الذي يسرح ويمرح ويفعل ما يحلو لخصومه ووجد أن بقاءه على هذه الحالة يزيد من تدمير المساكن وحرق المزارع وترويع المواطنين في يافع ويزيد من مآسي أبنائها دون أن يكون قادراً على الرد لذلك قرر المغادرة إلى منطقة الزاهر في البيضاء وكان ذلك في 5 شهر يونيو 1961م.
واشار إلى أن والده توجه بعد ذلك إلى تعز حيث سعى إلى مقابلة الطاغية احمد، ولم يحضَ إلا بمقابلة ولي العهد الأمير محمد البدر؛ وشرح له أسباب الخلاف مع الإنجليز وما فعله سلاح الجو البريطاني في يافع وطلب مساعدة المملكة المتوكلية اليمنية المادية والعسكرية وخاصة في السلاح الثقيل (مضاد الطائرات) وإذا كانت المملكة لا تستطيع تقديم ذلك، فعلى الأقل أن يطلبوا توقيف القصف المستمر على يافع.
ولم يطلب السلطان محمد عيدروس من الطاغية وولي عهده أن يطلبا من حليفهما توقيف طيرانه من القصف المتواصل على قرى يافع، في حال لم يستطيعا تقديم العون له بالسلاح الذي يمكنه من التصدي لسلاح جو الاحتلال، إلا وهو يدرك تمام الادراك بتحالفهما.
وقال الدكتور فضل: “الأمير محمد البدر طلب من والده أولاً أن يوحد المعارضة ضد الإنجليز وأعطاه فرصة لذلك راسل والده الجهات الوطنية المعارضة في عدن، وحضر منهم ممثلو أربعة عشر نادياً وبعض ضباط الجيش. واتفقوا مع السلطان محمد على ان يرفع للإمام مطالب بالمساعدات الضرورية لمقاومة الاستعمار وان محميات الجنوب عند نيلها الاستقلال ستكون ضمن يمن واحد في إطار مملكة «دستورية» واحدة يكون الإمام احمد ملكها على أن تكون لهذه المملكة حكومة وبرلمان منتخبان من الشعب لم يوافق الإمام على ما طرح وعاد القادمون من حيث أتوا”.
يعني الطاغية احمد رأى بقاء الاحتلال الانجليزي لجنوب الوطن افضل من تحريره، وأن اليمن يبقى مشطرا بين حلف الاحتلال افضل من توحيده تحت سيطرة وحكم محتل واحد، لأنه الاحتلال الفارسي يدرك تماما أنه في الاول والاخير هو احتلال ومغتصب سلطة حق شعب ليس هو جزء منها، وبالتالي لا يستطيع الصمود امام هيجان الشعب اليمني الذي لابد له ان يخرج من القمقم عما قريب، وان طرد الاحتلال الغربي لن يكون سوى خطوة أولى لطرده هو، ولم يكن يدرك انه سيسبق حليفه بالرحيل غير المأسوف عليهما.
واكد ان والده، سبق له مراسلة مجلس العموم البريطاني بعد قدومه إلى البيضاء. وقد زاره إليها نائبان من حزب العمال في مجلس العموم بتاريخ 22 يونيو 1962م. عرض عليهما السلطان صور الدمار الذي خلفته هجمات سلاح الجو البريطاني في يافع وطرح لهم مطالبه وتظلمه من التعسف وفرض الارادة التي تمارسها الادارة البريطانية في عدن كما طالبهم بنقل رغبة أبناء المحميات في الحصول على الاستقلال أسوة بالشعوب التي حصلت على استقلالها من بريطانيا، مشيرا إلى أنه مع قيام ثورة 26سبتمبر واندلاع معارك الدفاع عن الجمهورية الوليدة أوحى السلطان محمد إلى بعض أنصاره بدعوة أبناء يافع للتطوع والقتال مع الجمهورية وقد حضر من أبناء يافع إلى البيضاء وأرسلوا إلى صنعاء على ثلاث دفع ما يقارب 970متطوعاً.
لأهمية المذكرات التي كتبها الوزير الاسبق فضل العفيفي، والظلم الذي لحق بوالده وزميله السلطان العبدلي علي عبدالكريم، باعتبارهما اول المناهضين للاحتلال البريطاني، وهما السلطانان الوحيدان اللذان وقفا ضد خطط السلطات البريطانية في اقامة مشروعها(اتحاد الجنوب العربي)، وبموقفهما الرافض لتنفيذ هذا المشروع عجزت سلطات الاحتلال المضي فيه، خاصة وان الرفض يأتي من أهم سلطانين لديهما أطروحات مقنعة ومشاريع طموحة، وهي-سلطات الاحتلال- لا ترى في السلاطين الذين صنعتهم بيدها إلا تابعين لها ينفذون ما يؤمرون به، إلا السلطان العفيفي والعبدلي، فقد وصفتهما بالمجرمين، بل ولم يشفع لهما نضالهما، لدى زملائهما في الكفاح المسلح لاحقا.

زر الذهاب إلى الأعلى