سلسلة الفكر الشرطي الحديث.. الشرطة وسبتمبر 1962م

سبتمبر نت/ مقال- عميد ركن/ نجيب سعد الناصر
ونحن في القرن الواحد والعشرين نواكب التطوير والتحديث في الفكر الشرطي الحديث ونستشرف مستقبل الشرطة اليمنية، كان لابد لنا أن نستذكر تاريخ الشرطة الجمهوري. ففي السادس والعشرين من سبتمبر 1962م دوّى فجر جديد في سماء اليمن، لتسقط معه قرون طويلة من حكم إمامي مظلم ارتبط بالجهل والفقر والمرض. وقد كانت ثورة سبتمبر لحظة ميلاد اليمن الحديث، حيث انفتحت أمام الشعب أبواب الحرية والمعرفة والتنمية، وتجسدت فيها تضحيات الأحرار الذين نذروا حياتهم لإنهاء الاستبداد وبناء دولة قائمة على العدالة والمساواة. وفي قلب هذه التحولات برز جهاز الشرطة كأحد أبطال المشهد، إذ تحوّل من أداة قمع بيد الإمام إلى حارس لمكاسب الثورة ودرع للجمهورية الوليدة.
إن استحضار دور الشرطة في ثورة سبتمبر يكشف عن حقيقتين أساسيتين: الأولى أن المؤسسات الأمنية ليست كيانات محايدة، بل يمكن أن تكون ركيزة للشرعية أو أداة لقمعها بحسب طبيعة النظام الحاكم، والثانية أن بناء جهاز أمني مهني ووطني كان من أهم مكتسبات الثورة، باعتباره شرطاً أساسياً لاستقرار الدولة الحديثة. واليوم، وفي ظل التحديات التي يواجهها اليمن بعد انقلاب مليشيا الحوثي في 21 سبتمبر 2014م،على الدول اليمنية ومكتسباتها والسعي لإحياء مشروع الإمامة بوجه جديد، تبرز الحاجة إلى ترسيخ مبادئ وقيم ثورة سبتمبر المجيدة 1962م في وجدان كل ضابط وصف وفرد في جهاز الشرطة اليمنية، وهي المبادئ التي تأسست عليها الجمهورية، وفي مقدمتها الدور الوطني المهني للشرطة كحارس للأمن ومكاسب الدولة اليمنية.
الشرطة قبل الثورة: أداة قمعية
لم يكن جهاز الشرطة في عهد الأئمة أكثر من ذراع غليظة في يد الحكم المستبد. اقتصر دوره على حراسة الأسواق وتنفيذ أوامر الإمام وعماله، فيما افتقر أفراده للتأهيل والتدريب، وحتى حين حاول الإمام أحمد في الخمسينيات إنشاء مراكز شرطية في المدن الكبرى كالحديدة وتعز وصنعاء، فإن تلك المحاولات ظلت شكلية بلا مضمون، لأن طبيعة النظام الاستبدادي لم تسمح بأي تطوير حقيقي.
البدايات الأولى
مع مطلع الخمسينيات بدأت رياح التغيير تهب، حيث ابتُعث عدد من الطلاب للدراسة في الكليات العسكرية بمصر، وهناك تنفّسوا عبق الحرية وتأثروا بروح التحرر. ومن هذه التجربة وُلد تنظيم الضباط الأحرار، الذي لم يقتصر على الجيش وحده، بل جذب ضباطاً من جهاز الشرطة أيضاً. وكان تأسيس كلية البوليس في تعز عام 1954م، في دار العريدي، خطوة مهمة لتأهيل كوادر أمنية يمنية جمهورية وفق أسس علمية حديثة. وقد تخرجت أول دفعة منها عام 1956م، ثم نُقل مقرها لاحقاً إلى صنعاء قبل الثورة. ورغم أن الإمام أحمد كان يعوّل على هؤلاء الخريجين لتثبيت حكمه، إلا أنهم فاجأوه بالانحياز إلى صفوف الشعب، لينضم كثير منهم إلى تنظيم الضباط الأحرار ويصبحوا وقود الثورة وحماتها.
في ساعة الصفر
عندما انطلقت شرارة الثورة في 26 سبتمبر 1962م، لم يكن ضباط الشرطة على الحياد، بل كانوا في قلب الحدث. فقد شاركوا في السيطرة على المراكز الأمنية المحدودة والمباني الحكومية، وتأمين المواقع الحيوية، وجمع المعلومات عن تحركات الموالين للإمام. كان انضمامهم للثورة دليلاً قاطعاً على أن النظام الإمامي فقد شرعيته حتى داخل أجهزة الشرطة، وأن هذه المؤسسة تحولت من أداة قمع إلى جهاز وطني يضع يده بيد الشعب في معركة الخلاص.
بناء الجهاز الأمني الجمهوري
لم يكن الطريق بعد الثورة مفروشاً بالورود، فقد واجهت الجمهورية الوليدة مقاومة شرسة من خلايا الإمامة المدعومة من الخارج. ومع ذلك، كانت الشرطة على قدر المسؤولية، حيث أعيدت هيكلة الجهاز الأمني تحت إشراف وزارة الداخلية، وتصدت لمهام حفظ الأمن ومكافحة الجريمة وتأمين المدن، كما ساهمت في دعم المجهود الحربي بحراسة خطوط الإمداد والأهم من ذلك أنها واصلت مسيرة التعليم والتأهيل عبر كلية الشرطة، التي أُعيد تنظيمها مرات عدة حتى أصبحت جزءاً من أكاديمية الشرطة، بما يعكس إصرار الدولة اليمنية الجمهورية على بناء جهاز أمني حديث.
وختاماً:
إن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر لم تكن مجرد صفحة في كتاب التاريخ، بل كانت ولادة يمن جديد تخلص من الاستبداد وأشرع أبواب الحرية. وقد أثبتت الشرطة، بانحيازها للشعب ومشاركتها في الثورة، أنها مؤسسة وطنية عصيّة على التوظيف لصالح الطغاة، بل صمام أمان لمكتسبات الأمةاليمنية. واليوم، في مواجهة محاولات إعادة الإمامة بوجهها الجديد ممثلة بمليشيا الحوثي، تبدو الحاجة ملحّة لاستلهام روح سبتمبر وقيمها لبناء يمن حر مزدهر، آمن تسوده العدالة والتنمية.