«الجبهة القومية».. أساليب كفاحية متعددة على طريق التحرير
سبتمبر نت/ تقرير
مع تعاظم المدّ القومي إبان ثورات التحرر العربية، كان مؤتمر “القوى الوطنية اليمنية” المنعقد في فبراير العام 1963، الذي شهدته العاصمة صنعاء، بحضور المئات من الشخصيات السياسية والمستقلة، وعدد من الضباط الأحرار وقادة من فرع حركة القوميين العرب، تمهيدًا لولادة “جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل” التي تحوّلت بعد أشهر من ذلك إلى “الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل” كاسم نهائي، لتنظيم يؤمن بالثورة المسلحة كأسلوب أمثل وأكثر فعالية لطرد المحتلين.
عقب الإعلان عن تأسيس “الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل” في 19 من أغسطس عام 1963، تشكّلت قيادتها المكونة من 12 شخصًا، بعد اندماج سبعة تنظيمات سرية أعلنت إيمانها بالكفاح المسلح، وهي: حركة القوميين العرب، الجبهة الناصرية في الجنوب المحتل، المنظمة الثورية لجنوب اليمن المحتل، الجبهة الوطنية، التشكيل السري للضباط والجنود والأحرار، وجبهة الإصلاح اليافعية، ثم التحقت ثلاثة تنظيمات أخرى بالجبهة القومية، وهي: منظمة الطلائع الثورية بعدن، منظمة شباب المهرة، والمنظمة الثورية لشباب جنوب اليمن المحتل.
وتضمنت وثيقة الميثاق القومي، الاتجاهات النظرية والفكرية والسياسية العامة السائدة في قلب الحركة القومية العربية، في التأكيد على قضية الوحدة اليمينة والعربية والعدالة الاجتماعية، مؤكدة على خيار الكفاح المسلح والثورة الشعبية المسلحة، كشعار سياسي وكفاحي مركزي.
الكفاح المسلح والعمل الفدائي
كانت رؤية الجبهة القومية ومنظورها للسياسة والصراع والمستقبل الوطني تتطور بتفاعل إيجابي مع ما حولها، في الوطن والمنطقة العربية والعالم، حيث كانت راية العدالة الاجتماعية والاشتراكية طاغية وغالبة في صيغة وروحية الخطاب التحرري القومي والعالمي، وكان تأسيس الجبهة القومية ثمرة لصراعات أيديولوجية وسياسية، وتنظيمية جارية في قيادة الحركة، لم تظهر على بنية الجبهة القومية، بسبب طبيعة المهام السياسية الاستراتيجية الكفاحية الملقاة على عاتقها في حمى الكفاح المسلح والثورة الشعبية التي استنفرت واستقطبت حالة عداء سياسية واسعة ضدها من أطراف فاعلة، ومؤثرة في العملية السياسية في جنوب البلاد؛ كما يقول الكاتب السياسي، قادري أحمد حيدر.
بدأت قضية الكفاح المسلح والثورة الشعبية المسلحة ضد الاستعمار البريطاني، كفكرة ورؤية سياسية في خطاب حركة القوميين العرب في اليمن، بل أن حركة القوميين العرب (المركزية) في بيروت طرحت بعد إنشائها قضية الكفاح تحت تأثير نكبة فلسطين، وهزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل وفي مواجهتها.
وكان أهم ما يميز حركة القوميين العرب في اليمن، طرحها بعد تكوينها مباشرة لشعار الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني المحتل للشطر الجنوبي من الوطن، وما يثير الانتباه أن حركة القوميين العرب في اليمن كانت ضد موقف “الاتحاد اليمني” الذي كان يكتفي بمكافحة الاستبداد الإمامي في الشمال ويهمل الكفاح ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب، وكانت ضد عزل النضال الوطني التحرري عن النضال من أجل تطوير الأوضاع في شماله، وقد لاحظت بوعي وطني مبكر، أنه من الصعب الإقدام على هذا النمط الرفيع من الكفاح المسلح ضد العدو الأجنبي، مالم يكن شمال الوطن هو القاعدة النضالية التي تسمح للثوار بالانطلاق منها، والاحتماء بها، كما تتيح لهم إمكانيات الإسناد، والتغطية النضالية، وإمكانيات الكر و الفر.
وبقي هذا المنطق من التفكير السياسي والثوري بخيار الكفاح المسلح يتبلور في وعي وتفكير ووجدان حركة القوميين العرب في اليمن من العام 1959م وحتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م إلى حين قرارها السياسي التاريخي بتشكيل وإعلان قيام “الجبهة القومية”، بعد حوالي عشرة أشهر من قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م.
آنذاك جاء قرار إعلان قيام الجبهة القومية مرتبطاً ومتوحداً بخيارها في الكفاح المسلح، كما أعلن في “الميثاق القومي” لوثيقة إنشاء وقيام الحركة – الجبهة والبدء بعدها مباشرة بممارسة طقوس العمل المسلح انطلاقاً من أراضي القاعدة الخلفية، تعز كمنطقة التدريب والتأهيل، والعسكرة، وبدعم سياسي وعسكري من مصر.
مع مسيرة الثورة المسلحة، أيقنت بريطانيا أنها تواجه ثورة مسلحة لها سمة الاستمرار، أما عن نوعية الثوار هذه المرة، فقد كانت مختلفة أيضاً، عن النوعيات التي شاركت في الانتفاضات القبلية السابقة، فمعظمهم من الشباب أقل من الثلاثين عاماً، لا تفرقهم النزعات القبلية السابقة، أو اختلاف المستويات الفكرية، وقد جاءوا من كل القبائل، والمناطق في اليمن الجنوبي، يجمعهم ولاء واحد للثورة، وللتنظيم القائد، وكانوا من قبل يعملون، بعضهم بالتدريس والبعض يعملون عمالا في مصفاة البترول في عدن، أو جنوداً في قوات الاحتلال والسلاطين ثم هجروا أعمالهم، وبيوتهم إلى طريق الكفاح المسلح بعد أن كانت السلطات البريطانية ترى المنطقة تقسمها النعرات القبلية وقد ساعدتهم الطبيعة الخاصة للأرض في اليمن الجنوبي باستثناء عدن، في تقديم ميزة للمقاتلين بالإضافة إلى حركتهم السريعة، وفق ما ذكره الدكتور أحمد عطية المصري، في كتابه “تجربة اليمن الديمقراطية”.
لم يمض أكثر من عام واحد فقط على إعلان الجبهة القومية، حتى تمددت سياسياً وجماهيرياً ووطنياً إلى معظم الجغرافيا الوطنية في جنوب البلاد، وانتقلت بالثورة المسلحة إلى قلب المدينة عدن من العام 1964م.
في الـ14 من أكتوبر 1963، ومع انطلاق الشرارة الأولى ضد الاستعمار البريطاني، من جبال ردفان بقيادة راجح بن غالب لبوزة، الذي استشهد مع مغيب شمس يوم الثورة، شنت السلطات الاستعمارية حملات عسكرية غاشمة استمرت ستة أشهر، ضربت خلالها القرى والسكان الآمنين بمختلف أنواع الأسلحة، تشرد على إثرها آلاف المدنيين العزل، اتّبعت القوات البريطانية في هجماتها وغاراتها على مناطق ردفان سياسة “الأرض المحروقة”، وخلفت كارثة إنسانية فظيعة جعلت أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني يدين تلك الأعمال غير الإنسانية.
مع إدراك الإدارة الاستعمارية البريطاني، خطورة هذه الطاقة الثورية ووصول عملياتها المسلحة إلى قلب عدن، ضاعفت من مؤامرتها التي فشلت، قبل أن يبدأ طرح الاستقلال في محاولة لفك الحصار السياسي والعسكري المسلح الذي بدأ يطوقها من جميع الجهات.
كانت عملية الفدائي خليفة عبدالله خليفة، التي فجّر خلالها قنبلة في مطار عدن، وأسفرت عن إصابة المندوب السامي البريطاني (تريفاسكس) بجروح ومصرع نائبه القائد جورج هندرسن، سببًا كافيًا لإعاقة المؤتمر السنوي في لندن الذي أرادت بريطانيا من خلاله الوصول مع حكومة الاتحاد إلى اتفاق يضمن الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في عدن، إذ أصيب خلال هذه العملية الفدائية نحو 35 من المسؤولين البريطانيين وبعض وزراء حكومة الاتحاد الذين كانوا يهمون بصعود الطائرة، وكانت إيذانًا بانتقال الكفاح المسلح من الريف إلى المدينة.
في اليوم التالي لهذه العملية الفدائية، صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، قضى بحل مشكلة الجنوب اليمني المحتل وحقه في تقرير مصيره والتحرر من الحكم الاستعماري البريطاني.
وفي عام 1965 اعترفت الأمم المتحدة بشرعية كفاح شعب الجنوب طبقاً لميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
الأدوات السياسية والاقتصادية
على وقع الضجيج الثوري الذي كان يملأ عدن حينها، ظهرت في هذا المناخ السياسي التعددي الاستقطابي الحاد، البشائر الأولى لعملية تحول أيديولوجية سياسية في قلب الجبهة القومية، فجاء المؤتمر الأول للجبهة القومية من 22إلى25 يوليو 1965م ليطرح وثيقة “الميثاق الوطني”، كوثيقة أيديولوجية وسياسية تاريخية متقدمة.
وجّه الميثاق النظر إلى الاستعمار بوصفه نظاماً اقتصادياً، نتاج الرأسمالية العالمية الاحتكارية المستغلة لخيرات الشعوب، وعلى هذا دعت العناصر الوطنية إلى توحيد كل قوى الثورة في جبهة واحدة لمواجهة الاستعمار.
كانت الجماهير الكادحة تشكل أغلبية سكان جنوب اليمن، الذين يتعرضون لاستغلال الإقطاع والبرجوازية التي تحولت مع المال إلى كمبرودارية مسيطرة على السوق الوطنية ، فقد أصبح من الضروري ربط النضال ضد الاستعمار بالنضال ضد المرتبطين به عضوياً، والذين يقومون باستغلال السكان وتعويقهم، عن تحقيق استقلال حقيقي؛ بحسب ما ذكره الكاتب الدكتور أحمد عطية المصري.
وعبّر الميثاق الوطني للجبهة القومية بجلاء ووضوح تأكيده على خيار الكفاح المسلح، والعمل الثوري كشكل أساسي للنضال، مع استخدام كل أشكال النضال السياسي، والديمقراطي، والمدني، وكان خيار الكفاح المسلح الموجه ضد الاستعمار، يعني ضمناً ومباشرة، إسقاط نظامه الاستعماري بما يحتويه من مكونات، متفاعلة ومتعاملة معه.. ومن هنا وحد الكفاح السياسي بالكفاح الاقتصادي، والاجتماعي للثورة في جنوب البلاد، أي التحرير، ببعديه، السياسي والاقتصادي.
يقول المستشرق الروسي، فيتالي ناؤومكين في كتابه: “الجبهة القومية في الكفاح من أجل الاستقلال”، إن الإطار النظري السياسي التحليلي للميثاق الوطني، يبين أنه كان خطوة إلى الأمام (نظرياً وأيديولوجياً) بالمقارنة مع البرنامج الفكري والسياسي لحركة القوميين العرب، ولوثائق الجبهة القومية، رغم أن الميثاق الوطني، انعكس فيه بعض التناقض والتعارض وعدم النضوج الكافي، والتبجح في آراء القادة التقدميين للجبهة القومية.، لقد كان أهم مكسب لها – كما يرى البعض –الباحث– أن أعلن في الميثاق عن تبني الاشتراكية العلمية مما ساعد على العملية العامة لتجذير الأيديولوجيا القومية في جنوب اليمن.
كان النضال المسلح المترافق مع كل أشكال النضال السياسي والمدني والنقابي من إضرابات وتظاهرات واحتجاجات واعتصامات، حتى الأشكال التشريعية، كانت تتضافر، وعلى رأسها صوت المقاومة الشعبية المسلحة، وذلك ما أوصل قضية الجنوب قمة المحافل الدولية، كما يقول الكاتب اليمني قادري أحمد حيدر.
لم تتوقف الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل، عن ممارسة كافة أشكال النضال السياسي والثقافي والجماهيري والإعلامي السلمي، وصولًا إلى الأمم المتحدة، مع كافة فصائل العمل الوطني في جنوب البلاد، إذ كان إعلانها انتقالا سياسيا وعمليا في تأطير إرادة الناس ضمن حركة سياسية مقاومة ملتزمة بالعنف الثوري المسلح في مواجهة الاستعمار، في وقت كان البعض يرى في ذلك تطرفًا سياسيًّا لا معنى له، وإضاعة للوقت، خاصة بعد أن بدأت وعود الاستعمار بالإعلان عن رحيله المرتقب، وبتسليم السلطة سلميًّا من خلال “المفاوضات الدستورية/ أي عبر المؤتمرات الدستورية” المقرر انعقادها في لندن، والتي أكّدت فشلها، ومن أنها في الواقع هي اللعبة السياسية، وليس خيار الكفاح المسلح.
خلال أربع سنوات من الكفاح للتحرير، قدم أبناء الجنوب اليمني أعظم التضحيات في سبيل الخلاص من جحيم المستعمر البريطاني بمشاركة مختلف الأطياف والتوجهات والتكوينات من الفعاليات الطلابية والنسائية والنقابية في مسيرة النضال من خلال المظاهرات والإضراب والكفاح المسلح، تكللت في العام 1967م بإعلان استقلال الجنوب اليمني وتحرره بخروج آخر جندي بريطاني من مستعمرة عدن وكان الثلاثين من نوفمبر هو يوم الحرية وعيد الجلاء والاستقلال، لتعم الفرحة كل قرى ومدن اليمن شمالا وجنوبا.
اترك رداً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.