«فرق تسد» سياسة الاحتلال الإنجليزي لجنوبي الوطن الأقل تكلفة

img

سبتمبر نت/ تقرير – عمار زعبل

كان الحارس الأخير لها، حاول الحفاظ عليها بكل السبل، كونه يدرك أهميتها، كما يدرك غزاة العالم، فقد أصبحت السفن الأوروبية من كل الجنسيات تحوم في بحرها، تنتهز الفرصة للانقضاض على المدينة الجوهرة، التي ستدر ذهباً على كل من يسيطر على مينائها، فبها سيكون التحكم بالتجارة العالمية، رابطة بين المشرق والمغرب، لم ينجح الأمير اليمني الطاهري في ذلك، مات شنقاً على يد من استنجد به من البرتغاليين، علُق جسده على سارية سفينة مبعوث المماليك «الجراكسة» إلى اليمن والبحر الأحمر، ليبقى المشهد مرسوماً وإن حاول البعض طمسه، بأن «عدن» هي درة اليمنيين وأنها جزء من تاريخهم وحضارتهم، إضافة إلى أنها هبة ربانية، تميز هذه الجغرافيا من العالم.

كان عامر بن دواد، آخر الملوك الطاهريين، «الدولة اليمنية الخالصة» بقي حتى نفسه الأخير في عدن، حاكماً لها، مات وهو يريد أن لا يمسها الآخر، القادم من خلف البحار، ليستأثر بها، كان في أضعف حالاته، نتيجة الضربات التي تلقتها دولته من المناوئين لها، وأولهم الإماميون، ممن لا يريدون لليمن أن تحكم بيد أبنائها، ولا تعيش إلا في ظل الصراع أو الاستعداد له.

لعاب الأوربيين

هكذا كان الوضع ضعيفاً وهشاً في اليمن، جاذباً لأي قادم أن يفرض سيطرته، لقد أتى الصراع والاستبداد الإمامي الذي يضعف حينا، ويقوى أحياناً أخرى، أتى على كل شيء، ومنها الدولة المركزية القوية التي باستطاعتها أن تحافظ على حدود البلد البحرية، وعلى موانئه التي سال من أجلها لعاب الشركات الاستعمارية التي كانت تمثل الدول الأوروبية، حينها التي خرجت تواً من عصورها الظلامية، بعد رحلات استكشافية، فتحت شهيتها على المال والذهب، ثم النفط في فترة متأخرة، ناهيك عن السيطرة والقرصنة واستعراض القوة، في الممرات البحرية المهمة، ومنها مضيق باب المندب، المضيق الذي أطلق عليه ياقوت الحموي تسمية باب الدموع، فظلت صفة ملتصقة به حتى اللحظة.

حين أتى العثمانيون في القرن العاشر الهجري أدركوا ذلك، وأدركوا أن اليمن كتلة واحدة، فإن أرادوا سلامة حكمهم في السواحل عليهم مد سيطرتهم إلى المحافظات الداخلية ومنها صنعاء، إلا أنهم قضوا على حلم اليمنيين بحكم بلدهم، بعد أن سلموا مقاليد الأمور للإمام يحيى في حين بريطانيا قد كانت في قلب عدن، وتسيطر حتى المهرة وحضرموت شرقاً، وجزيرة كمران غرباً، التي لا تبعد إلا كيلومترات بحرية قليلة من ميناء الحديدة المهم في البحر الأحمر.

مصائد بريطانيا المحكمة

تاريخ كبير من اللااستقرار، والصراع والعزلة والحروب البينية بين القبائل التي كانت ترعاها الإئمة المتعاقبون، فالحروب هي أساس الحكم والسيطرة والغلبة، إضافة إلى الجهل والبعد عن العواصم والدول التي بدأت تشهد النهوض على كل المستويات، وسط كل هذا حضرت بريطانيا، بكل دهائها ومكرها، مدشنة فصلاً جديداً من التاريخ اليمني، الذي أرادت أن تتحكم بكل تفاصيله، لذا الثورة عليها وطردها لم يكن سهلاً، إذ زرعت مصائدها الماكرة التي سيتخلص منها اليمنيون متى احتكموا لعقولهم، أما إذا غيبت، فإن حبائل السيدة العجوز تظهر من جديد.

احتلال بالخدعة

تشهد الوثائق والمراسلات التي تمت في بدايات التاسع عشر، بعد اقتراب «شركة الهند الشرقية البريطانية» من عدن، بأن بريطانيا دشنت احتلالها واغتصابها لميناء عدن، بالكثير من الأكاذيب والخدع، أنها أتت لتبقى وأن يكون لها هذا المكان مستعمرة، وأهم ميناء لها في العالم الحديث، كونها نقطة في منتصف الطريق بين أوروبا وجنوب شرق آسيا، مع امتيازها بمياهها العميقة جداً والخالية تقريباً من الشعاب المرجانية، وتطل على مساحة واسعة من البحر العربي والمحيط الهندي.

ديريا دولار

في 19يناير عام 1839م تغير تاريخ اليمن، وليس عدن فقط، إذ أصبحت المدينة التاج الحقيقي للإمبراطورية البريطانية، التي كان يقال لها التي لا تغب عنها الشمس، وهو ليس الحقيقة، فقد غابت في عدن من أول يوم نزل أحد بحارتها ليلامس ساحلها الذهبي، إذ شعر بأن المدينة ليست لهم، إنها ستبقى ثغر اليمن الباسم، مهما كانت المؤامرات، فتواجد «تاج ويلز» حينها في عدن بدأ بمجموعة من الأكاذيب، وهو ما يحتم بأنه سيكون تواجداً ناقصاً، ولن تكتب له الديمومة، إذ دبرت البحرية الإنجليزية أمر إحراق الباخرة الهندية (ديريا دولار) واُتهم السلطان العثماني بأنه المحرض على الحادثة.

التعويض للسلطان التركي

لم تكتف بريطانيا بحادثة غرق السفينة الهندية «ديريا دولار» التي اتخذها الكابتن «ستا فورد بتسورث هينس» ذريعة للهجوم على المدنية، بعد أن وضع عليها علم بلاده، لتدبر مكيدة أخرى كما أكد مؤلفون يحملون جنسيتها، بأنها زورت مجموعة من الوثائق، كانت مثيرة للسخرية، ذهب بها سفراؤها إلى الاستانة حيث السلطان التركي، لتبرير احتلالهم، لتمرر كذبتهم بعقد اتفاق مع السلطان العثماني قضى بدفع البريطانيين تعويضاً يقدر بـ6500 ريال (ماري تريزا)، يقدم سنوياً إلاً أن الدفع توقف في العام 1857م.

عنكبوت

مدت «العنكبوت» الاستعمارية البريطانية خيوطها، وأوجدت استراتيجيتها التي طبقتها في مناطق أخرى مشابهة من العالم، وجعلتها العنوان الأبرز لهيمنتها، إذ استخدمت في الجنوب اليمني سياسة «فرق تسد» لتحكم بأقل الخسائر من المال والأفراد، وهي السياسة التي لم تستخدمها فقط في عدن والمحميات الشرقية والغربية، بل عموم اليمن، في المناطق التي يسيطر عليها الإمام يحيى حميد الدين، والتي تركتها له «تركيا» إرثاً له، وهكذا زين لها، إلا أنه احتفظ الجميل أكثر لبريطانيا، تعامل معها وكأنها جارة له، مكذبا حقيقة الوضع بأن اليمنيين كتلة واحدة، سواء من يحكمهم، أو تتحكم بهم شريكته العظمى، فوقف على الحياد في الحرب العالمية الأولى، ولم يقترب من الأراضي المحتلة من قبل الانجليز، بل ازداد التعاون بينهم فيما بعد، من أجل التضييق على الأحرار، وأن لا تكون عدن مقراً لأي تحرك تحرري، قد يضر بمصالحهما معاً.

زرع التفرقة.. مفتاح بريطاني

أصبح «فرق تسد» مثلاً شعبياً، ملازماً للاحتلال البريطاني في اليمن، فمنذ الوهلة الأولى وجدت بريطانيا التربة خصبة لزرع فكرتها الاستعمارية، فعملت على أن يظل التفرقة هو مفتاح سيطرتها على اليمن بشكل كامل، في البداية فكرت بعدن، والجزر القريبة منها بأن تكون مقراً لقواتها، وتعاملت معها كمستعمرة، أما المناطق الداخلية حتى حضرموت فقد اعتبرت مجرد محميات يتمتع فيها الحكام المحليون بالنفوذ الداخلي، وبشكل تدريجي تحول جنوب اليمن كله إلى شبه مستعمرة بريطانية من الناحية الاقتصادية.

ونشط الحاكم البريطاني في عدن على مبدأ التقسيم المناطقي والأسري، وجعل المشايخ والأسر النافذة حكاماً وسلاطين، في مناطق حكم لا تتجاوز مديرية أو مديريتين، وفق التقسيم الإداري للدولة في وقتها الحالي، مدشنة أسوأ حقبة مرت بها اليمن، ضعفاً وتمزقاً، كانت تسعى إلى شراء الولاءات مقابل الحماية من خلال توقيع المعاهدات، وإعطاء الامتيازات، وبث النزاعات سواء على حدود هذه السلطنات أو على الثروة وتقاسم الجبايات.

آلية الحماية

ويقرر باحثون أن هذه المعاهدات كانت على قسمين، الأول وفق معاهدات الحماية وبدأتها مع سلطان لحج في يونيو 1839م، وآخرها كان مع السلطان الكثيري في حضرموت عام 1939م، ومع مرور الأيام ازداد ترابط المصالح المشتركة بين السلاطين والاحتلال البريطاني، والثاني معاهدات الاستشارة، ووقعت أول هذه الاتفاقيات مع السلطان القعيطي عام 1937م في حضرموت، ووقعت آخر المعاهدات مع سلطان لحج عام 1952م.

جيش الليوي

في ظل كل ذلك ظلت بريطانيا تخطط إلى ما يضمن لها الاستقرار، من خلال زرع الكثير من النتوءات في الجسد اليمني، فعلى الرغم من صناعتها للسلطنات والمشيخات، إلا أنها لم تطرح إمكانية الفشل، وقد يقطع عليها مخططاتها مشروع وطني، قد يبدأ بالقضاء على الحكم الإمامي في الشمال، فسعت إلى أن تكون لها يد قوية ومن أبناء البلد، فكان «الليوي» أو ما يعرف بالجيش الشعبي في إطار استراتيجية جديدة أطلقت عليها مصطلح «إلى الأمام» استغنت بموجبها عن قواتها البرية التي أثقلت كاهلها بالأعباء الاقتصادية، وفشلت في السيطرة على المحميات.

المناطقية

هذه القوة الجديدة كانت مرآة عاكسة للواقع الذي شكلته بريطانيا، برزت المناطقية فيها بشكل واضح، بعد أن رأت كل مشيخة وسلطنة مكانتها الحقيقية لدى البريطانيين من خلال العدد الذي تم استيعابه في «الليوي» فظهر التذمر، وتعززت المناطقية ومشاريع الاحتراب وفق هذا النحو الذي لم يهدأ حتى اللحظة، وكان الغرض من إنشائه لقمع الانتفاضات ضد الاستعمار البريطاني ومواجهة قوات الإمام في الشمال.

شعارات زائفة

ما يتذكره من عاش تلك الفترة هو الكاريزما التي ميزت عناصر الليوي في السنوات الأولى من تشكيل هذه الكتائب، لتنقلب الأمور فيما بعد، حين بدأ الحراك المسلح ضد البريطانيين خصوصاً في عدن فالمحظوظ هو من أعلن استقالته وتبرأ من خدمته ضمن قوامه، أما من ظل فالتصقت به بشكل أو بآخر صفة العمالة والخيانة، وهو الأمر الذي ينسحب إلى القوات التي شكلتها، كجيش البادية الحضرمي، والجيش الاتحادي، التي تضمن أي جنوح مناطقي من باب «عدن للعدنيين» كشعار لجأت إليه بريطانيا لتضع الجميع في الأمر الواقع، إلا أنه لم يجد نفعاً لأن عدن كانت تعيش التنوع اليمني غير القابل للانفصال.

نموذج

أجادت السلطات البريطانية الحاكمة في عدن اللعبة، إذ كانت المدينة مسرحاً لهذه المهزلة التاريخية، فعند النظر إلى الصحف الحضرمية الصادرة في الخمسينيات من القرن العشرين كمثال، تجد التغطية لزيارات متتابعة لوفدي ما يعرف بالدولتين الكثيرية والقعيطية إلى عدن، للتفاوض حول النفط، كثروة غير مستخرجة حتى ذلك الوقت، لم تكلف بريطانيا نفسها على استخراجه، ولم تشجع على ذلك أيضاً، ما عملته فقط أنها استثمرت التنازع عليه، وهو ما زال في باطن الأرض.

السيناريو الأخير

«فرق تسد» سياسة لا تجد لها نمواً إلا بمعية النعرات والمناطقية، ولن تنتج إلا مشاريع التدخل والسيطرة من أي أجنبي متربص، ولن يقف أمامها إلاّ مشروع وطني جامع، همه الأول الحفاظ على تربة الوطن، وثرواته، أدركت ذلك بريطانيا وهي في أوج قوتها، إذ فشلت رؤيتها في اليمن، حين وضعت ما يعرف باتحاد الجنوب العربي، فربما لم تنس الهزيمة فعادت أو عاد أذنابها كما يقول مراقبون، بسيناريو مشابه لما حصل قبل خمسين عاماً تقريباً، ليكون المشروع نفسه، وبمصطلحات متقاربة فإمامة جديدة في صنعاء، وما يشبه السلطنات بالقرب من عدن، إلاّ أن كل ذلك يلاقي مقاومة شديدة من الأحرار الجدد، ممن لا توقفهم أمام أحلامهم بيمن اتحادي أية قوى ظلامية، كل ما يعرفوه أن هذا الشعب عرف طريق حريته وكرامته.

مواضيع متعلقة

اترك رداً